القاهرة – مع كل واقعة تضييق على حرية الفكر والإبداع الأدبي والفني هذه الأيام، يستدعي نقاد ومهتمون بالعلاقة بين الأدب والسينما والسياسة كل حين دلالة واقعة “شيء من الخوف” الرواية التي كتبها الأديب الراحل ثروت أباظة.

تحولت الرواية لفيلم سينمائي سبّب أزمة استدعت تدخل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لمشاهدة الفيلم ثم إعطاء الإذن بعرضه، رغم ما همس به إليه مقربون من أن الرواية والفيلم تقصدانه هو شخصيا بشخصية عتريس، كبير البلدة المتجبر الذي يتحكم في مصائر أهلها، ولا يستطيع السيطرة على امرأة أحبها، وزلزلت سلطانه على الناس والبلدة.

يأتي استدعاء هذه الواقعة عادة في معرض المقارنة بين عهدين ذوي مناخين مختلفين للإبداع، حيث كان عهد عبد الناصر مضرب الأمثال في التشديد على المبدعين والتضييق على الحريات حتى وقت قريب.

ويعزو نقاد لهذه الواقعة شهرة أباظة -الذي حلت ذكرى وفاته في 17 مارس/آذار الجاري- رغم أنه عانى من الإهمال النقدي لأعماله، كأديب، مع نظرة تتسم بشيء من التقليل من أدبه، والتجاهل التام أحيانا، وهو الأمر الذي لفت نظر أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ، فعلق في تصريحات صحفية على هذا التجاهل قائلا “السياسة أفسدت العلاقة بين أباظة وبين نقاد السينما، وكذلك نقاد الأدب، ولقد حاولت إحدى الصحف البحث عن مادة نقدية لأدب ثروت أباظة فلم تجد، ولم يكن التقييم النقدي لأفلامه الستة المأخوذة عن رواياته كافية، وكانت منشورة بشكل متفرق”.

بالمقابل رأى نقاد أن السبب في هذا التجاهل أن أدب أباظة لم يكن بمستوى أعمال جلية من عمالقة الأدب، وأنه لولا دعم ومساندة أهله له، ومنهم الأديبان فكري وعزيز أباظة، لما برز بهذا الحجم.

الفلاح الأرستقراطي

ولد أباظة عام 1927 لأسرة أرستقراطية وتلقى أول وأقسى عقاب من أبيه الأديب دسوقي أباظة لرسوبه بالمرحلة الابتدائية، من دون أن يتوقع أحد أن يتولى هذا الفتى الراسب منصب وكيل مجلس الشورى لاحقا، بعد رحلة مرت بمحطات ومنحنيات كان أخطرها “شيء من الخوف” الذي أزعج الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

“لا أرى في حياتي الشخصية ما يستحق الرواية”، هكذا يستهل أباظة كتابه الذي يسرد فيه مذكراته، بعنوان “لمحات من حياتي”، معلنا أنه لم يكن يفكر في كتابة شيء عن سيرته الذاتية، غير أن مذيعا ظل يضحك وهو يسجل لقاء مع أباظة عن جانب من سيرته، ورد فعل المذيع على طرافة الحكايات دفعه لكتابة هذا الكتاب الذي بثه جوانب من سيرته ليمتع القارئ بما استمتع به المذيع.

تشيع في سطور الكتاب تفاصيل نشأة أرستقراطية للراحل، حيث خادمة ترعاه، وخادم يصطحبه للمدرسة، وهو ما لم يتوفر لمعظم أبناء جيله من الأدباء الذين نشؤوا في بيئة شعبية ومتوسطة مثل نجيب محفوظ (1911-2006) وأحيانا فقيرة ومعدمة مثل طه حسين (1889-1973)، فنشؤوا مع معاناة صقلت تجاربهم وعمّقتها.

وتبدأ مسيرة أباظة مع اللغة العربية حينما يثني مدرس اللغة العربية على الفتى، وهو يصحح له طريقة نطقه كي “يصير أديبا”.

وبطريقته الرشيقة البسيطة في السرد، ينتقل أباظة للحاضر ليوبخ الجيل الحالي -مطلع التسعينيات وقت كتابة كتابه- على مصرع اللغة العربية على ألسنتهم، وهو ما يدعو للتساؤل ماذا لو عاش الأديب حتى اليوم ورأى مصير اللغة العربية على ألسنة أدباء وإعلاميين ومثقفين؟

لا يخجل أباظة من ذكر واقعة رسوبه في المرحلة الابتدائية، إذ يتذكر مواساة صديق لأبيه بالقول له إنه سيصبح ذا شأن لأن “خير أبيه الذي قدمه للناس في حياته لن يذهب سدى، وسيكرم به الابن”، وذلك في مسعى من صديق الوالد للتخفيف عن الابن المكلوم.

بدأ حياته الأدبية مبكرا في سن الـ16 واتجه إلى كتابة القصة القصيرة والتمثيلية الإذاعية وبدأ اسمه يتردد بالإذاعة، ثم اتجه إلى القصة الطويلة فكتب أول أعماله “ابن عمار”، وهو قصة تاريخية تروي قصة شاعر وسياسي أندلسي عمل وزيرا وسفيرا لحاكم إشبيلية المعتمد بن عباد قبل أن يستقل ابن عمار (1031 – 1085م) عن المعتمد بحكم مرسيا وقتله المعتمد بيديه بعد أن نال منه.

وتحققت نبوءة صديق والد ثروت أباظة، حيث قُرر تعيينه رئيسا لتحرير مجلة الإعلان، عقب تخرجه في كلية الحقوق، وتفاجأ أثناء جلوسه في تاكسي بمن يقفز إلى المقعد المجاور؛ رجل قدم له نفسه على أنه من المخابرات ومكلف بعمل تحريات عنه، وأن الرجل أراد اختصار الطريق وقرر أن يسأله مباشرة عن تفاصيل حياته مطالبا إياه بكتمان أمر هذه المقابلة حتى لا يتأذى كلاهما.

يحكي أباظة هذه القصة وهو يلعن العهد الذي حصل خلاله على وسام العلوم والفنون ليسجل “حقارة” العهد الذي كان يعيشه وطغيانه وتخبطه.

الأديب المصري الراحل ثروت أباظة (مواقع التواصل)

بعدها ذهب إلى عمه فكري أباظة في مجلة المصور فعينه بالمجلة، التي لم يمكث بها غير نصف ساعة، لأنه وجد أن رئيس القسم لا صلة له بالكتابة ولا بالصحافة، واكتشف أنه سيكون عليه اللجوء لعمه كل حين لتقويم الوضع بين وبين رئيسه، فاستقال.

ثم كتب في جريدة الجمهورية -الناشئة وقتها- ينتقد الشيوعيين، وكانت الجريدة قد صدرت باعتبارها لسان حال الجمهورية الوليدة التي ورثت الملكية، وكان ذلك من المحرمات وقتها، حيث يعني ذلك الانتقاد في الصحيفة التي تعد لسان حال الجمهورية أنه يحظى برضا رسمي، ما يعني احتمال غضب الاتحاد السوفياتي السابق حليف نظام عبد الناصر آنذاك.

صدرت الأوامر للأديب فتحي غانم -رئيس التحرير وقتها- بمنع أباظة تماما من الكتابة، فأبى غانم، وقرر أن يحدد مجال الكتابة أمامه فقط في كل شيء إلا السياسة، وهو موقف يثني فيه أباظة على شجاعة واستقامة غانم، وربما يستدعي مقارنة جديدة بين حال رؤساء تحرير الصحف اليوم وأمس.

يمضي فتحي غانم -وهو صاحب رواية “الرجل الذي فقد ظله”- خطوة أبعد في شجاعته، وتجاوز هذا الخط الذي اختطه لنفسه، ويسمح بنشر رواية “شيء من الخوف” في مجلة صباح الخير، حينما كان رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة روز اليوسف التي تصدر عنها المجلة، ووصف أباظة ذلك بأنه “شجاعة فائقة من رجل عظيم”.

تراث أدبي متنوع

وألف ثروت أباظة عدة قصص وروايات، تحول عدد منها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية، كما كتب أكثر من 40 تمثيلية إذاعية، و40 قصة قصيرة و27 رواية طويلة، ومن أعماله “هارب من الأيام”، “ثم تشرق الشمس”، “الضباب”، “أحلام في الظهيرة”.

ويحفل كتابه “لمحات من حياتي” بانتقادات لنظام عبد الناصر بلهجة لاذعة وشديدة، واصفا ما جرى خلال العدوان الثلاثي وهزيمة 1967، باعتبارهما كارثتين وطنيتين، كما يصف ما جرى من تقشف وقتها اضطره للذهاب للعيش مع عمه عزيز أباظة وقام بتأجير شقته في الزمالك مفروشة، ليعتاش منها، إضافة إلى ما يأتيه من عوائد كتاباته وبيع روايته وتحويلها لأعمال على الشاشات.

ومع انتقاده الشديد لعصر عبد الناصر، إلا أنه لا يذكر عهد حكم محمد حسني مبارك إلا بكل خير، مسجلا في كتابه أنه ألغى الضرائب على الكتاب عموما إكراما له، وبعدها دعاه الرئيس المصري الأسبق للقائه في قصره، ورغم أنه تأخر على موعده ساعتين إلا أنه قبل اعتذاره ببساطة، وظل أباظة يحظى بثقته ومودته، ثم رشحه ليكون وكيلا لمجلس الشورى.

ورغم أنه لم يعش كثيرا في مسقط رأس عائلته بمحافظة الشرقية، إلا أن كتابا كتبوا عن أباظة يعتبرونه “الفلاح الأرستقراطي” بتعبير حمله عنوان كتاب للكاتب محمود فوزي.

وتعد عائلة أباظة، التي ينتمي إليها الراحل، واحدة من أعرق عائلات مصر، وهي أسرة أدبية قدمت للأدب العربي عددا من الأدباء علي رأسهم والده الأديب دسوقي أباظة وعمه الشاعر عزيز أباظة وعمه الكاتب فكري أباظة.

تنقل أباظة بين عدة مناصب سياسية ومهنية، فتولى رئاسة تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون عام 1974، ورئاسة القسم الأدبي بصحيفة الأهرام بين عامي 1975 و1988 وظل يكتب في الصحيفة نفسها حتى وفاته، كما شغل منصب رئيس اتحاد الكتاب، وتولى منصب وكيل مجلس الشورى، كما كان عضوا بالمجلس الأعلى للثقافة وبالمجالس القومية المتخصصة ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون ورئيس شرف لرابطة الأدب الحديث وعضوا بنادي القلم الدولي.

كما حصل على عدة جوائز منها جائزة الدولة التشجيعية عام 1958، ونال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ثم جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1982.

وفي 17 مارس/آذار عام 2002 توفي بعد صراع طويل مع المرض إثر إصابته بورم خبيث في المعدة.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply