تشتد حاجة الناس للمعلومات والمعرفة خلال الصراعات الكبرى التي تؤثر على حياتهم ومستقبلهم، ولكن هل تقوم وسائل الإعلام بوظيفتها في الوفاء بحق الجمهور في المعرفة؟

تغطية وسائل الإعلام لحرب روسيا على أوكرانيا يمكن أن تساهم في تقديم إجابة جديدة لهذا السؤال، وفي ضوء تلك الإجابة يمكن أن يعيد الإعلاميون تقييمهم لوظيفتهم ودورهم المجتمعي.

العالم كله الآن يواجه حالة حيرة وخوف من المستقبل، فهذه الحرب ستؤثر على حياة المواطنين في أوروبا وأميركا بشكل مباشر، وستهدد الاستقرار والرفاهية التي تعودوا عليها، ولذلك تتزايد نسبة مشاهدة القنوات التلفزيونية وقراءة الصحف ومتابعة المواقع الإلكترونية بحثا عن المعلومات، لذلك تحاول وسائل الإعلام الاعتماد على مراسليها في تصوير مسار المعارك التي تزداد سخونة.

هذه هي أهم حرب في تاريخ الغرب، وسوف تزيد تغطية وسائل الإعلام لها حدة الصراعات، حيث ستشعر الشعوب بالإهانة، وأنها يجب أن تدافع عن إنسانيتها وحقوقها، وترفض الثقافة الغربية العنصرية، وتقوم بإنشاء وسائل إعلامية تعبر عنها وتدافع عن هويتها.

عقلية الصحافة الغربية

غطت الصحافة ووسائل الإعلام الغربية الكثير من الحروب، فكيف يمكن مقارنة تغطيتها لهذه الحروب بالعدوان الروسي على أوكرانيا؟

لقد أصبح تحيز هذه الوسائل واضحا، ففي الحروب السابقة كانت تتعامل معها على أنها كوارث طبيعية تحل بشعوب ليس لها أهمية، وتقلل من قيمة الشعوب العربية والإسلامية وأهميتها وإنسانيتها، لذلك فإنها تواجه موقفا مختلفا في هذه الحرب، حيث تتعاطف وسائل الإعلام الغربية مع شعب أوكرانيا، ويشعر الغربيون بالصدمة لأن الذين يتعرضون للكارثة هم شعب أبيض يشبه الشعوب الغربية، ولذلك فإن هذه الحرب تظهر بوضوح تأثير الثقافة الغربية العنصرية المتحيزة على تغطية وسائل الإعلام للأحداث.

وتلك النتيجة المهمة يجب أن تدفعنا لمراجعة صورة الإعلام الدولي التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، وأهم المبادئ التي يقوم عليها تدفق الأنباء في العالم، فالقضية لا تقتصر على الاختلال الكمي في تدفق الأنباء لكنها أكبر من ذلك، فالتغطية تقوم على ثقافة غربية متحيزة للبيض والرأسمالية والليبرالية ضد الشعوب التي ما زالت وسائل الإعلام الغربية تصفها بالتخلف والتطرف والإرهاب وعدم التحضر، وهذا يقلل التعاطف معها، ويجعل الشعوب الغربية تنظر إلى دماء هذه الشعوب التي تتدفق بشكل مستمر باعتبارها أمرا طبيعيا لا يستحق التعاطف معها ولا إدانة العدوان الأميركي والأوروبي.

أهم حرب في حياة الغرب

تعتبر وسائل الإعلام الغربية الحرب الروسية على أوكرانيا أكثر أهمية من كل الحروب، وأنها أهم حرب في التاريخ الحديث، ولذلك تقدم هذه الوسائل تغطية مكثفة يمكن أن تشكل بداية لمرحلة جديدة تتضح فيها الكثير من الحقائق التي يمكن أن تؤثر على مستقبل الصحافة والإعلام.

من أهم تلك الحقائق أن الغرب لا يقدر قيمة الحياة الإنسانية، وأنه يتعامل مع الإنسانية بنفاق وتحيز وعنصرية واستعلاء واستكبار ويرفض المساواة والعدالة، ولذلك فإن هذه الحرب يمكن أن تسقط الكثير من الشعارات الغربية، خاصة شعارات الثورة الفرنسية.

فإذا كان العالم يشاهد الضحايا الأوكرانيين تسيل دماؤهم وتتكدس جثثهم في الشوارع ويهربون إلى الدول المجاورة فإن العالم يمكن أن يشاهد أيضا سقوط الكثير من المبادئ العالمية، ووضوح الزيف والتضليل اللذين تعرضت لهما الشعوب منذ الحرب العالمية الثانية.

أنا أؤكد أنني أتعاطف مع شعب أوكرانيا، وأرى أنه من الضروري عرض صورة مقاومته وبطولته وتحديه للعدوان الروسي، ولكن على أسس إنسانية تقوم على أن الشعوب لها حقوق متساوية، ومن أهمها حق الدفاع عن أرضها واختيار نظم حكمها والتمتع بحريتها.

لكن وسائل الإعلام الغربية تتعامل مع الشعب الأوكراني على أساس اللون والعرق والانتماء إلى الغرب ومستوى المعيشة، وهذا يعني أن الثقافة الغربية تكشف صورتها الحقيقية في مواجهة هذا الحدث الخطير، وتظهر للعالم كله مدى القبح في هذه الثقافة القائمة على التفرقة العنصرية، وتقييم الناس على أساس ألوانهم وأجناسهم وانتمائهم للغرب.

لذلك، فإنها أهم حرب في تاريخ الغرب، وسوف تزيد تغطية وسائل الإعلام لها حدة الصراعات، حيث ستشعر الشعوب بالإهانة، وأنها يجب أن تدافع عن إنسانيتها وحقوقها، وترفض الثقافة الغربية العنصرية، وتقوم بإنشاء وسائل إعلامية تعبر عنها وتدافع عن هويتها.

إن الدفاع عن شعب أوكرانيا ورفض العدوان وسفك الدماء لا يعنيان أن دماء الأوكرانيين أغلى أو أكثر أهمية من دماء العراقيين والأفغان والسوريين والفلسطينيين، والغرب هو الذي يسيء إلى قضية الشعب الأوكراني بتحيزه العنصري له، ووسائل الإعلام الغربية هي التي يمكن أن تقلل تعاطف الشعوب معهم.

الحاجة إلى ثقافة إعلامية جديدة

هذا يوضح أن العالم يحتاج إلى جيل جديد من الإعلاميين يقومون بتغطية الأحداث بأساليب جديدة، ويعرضون قصص كفاح الشعوب بدون تمييز أو تحيز، ويلتزمون بالوفاء بحق الجمهور في المعرفة، وتقديم تغطية شاملة متكاملة للأحداث تعتمد على مصادر متعددة ومتنوعة.

إن العالم أصبح يحتاج إلى الإعلامي المهني الأخلاقي المثقف الذي يحترم جمهوره، ويحتاج إلى ثقافة إعلامية جديدة تلتزم بأخلاقيات الإعلام، فالإعلاميون الغربيون الذي عبروا عن توجهاتهم العنصرية وتحيزهم القائم على اللون والعرق أساؤوا إلى كل الإعلاميين في العالم، فتعليقاتهم توضح التقليل من الأهمية الإنسانية لحياة غير البيض وغير الأوروبيين.

وهذه التعليقات أيضا تساهم في تشويه صورة الإعلاميين، فهم يشاركون في تأجيج الصراع وإدارته، ولا يقتصر دورهم على البحث عن الحقائق ونقلها إلى الجمهور.

إن السود في أوروبا وأميركا يشعرون بالإحباط والسخط، وهذه المعالجة من وسائل الإعلام ستؤدي إلى زيادة غضبهم، حيث تتضح التفرقة العنصرية في التعامل مع اللاجئين الأوكرانيين البيض، والجمهور يلاحظ بوضوح تزايد تأييد البيض لليمين المتطرف في أوروبا الذي يعبر عن اتجاهات عنصرية.

اللون جواز السفر

لقد كان من الواضح أن الدول الأوروبية تعاملت مع اللون باعتباره جواز السفر الذي يسمح للأبيض بعبور الحدود والتعامل معه باحترام.

لكن وسائل الإعلام الغربية تعاملت مع شعوب أخرى -اضطرت للهجرة- باحتقار، وهذا يوضح أن أوروبا وأميركا ما زالتا تتعاملان مع الشعوب بعقلية استعمارية.

وهذا يعني أن الحرب الروسية على أوكرانيا ستؤثر على العالم كله، وستؤدي إلى انفجار صراعات جديدة، وأن النظام العالمي سينهار لأن الثقافة الغربية ما زالت تقوم على التراث الاستعماري.

لكن، هل يمكن أن يؤثر ذلك على السلام الاجتماعي في أوروبا وعلى تماسك المجتمعات؟

إن السود في أوروبا وأميركا يشعرون بالإحباط والسخط، وهذه المعالجة من وسائل الإعلام ستؤدي إلى زيادة غضبهم، حيث تتضح التفرقة العنصرية في التعامل مع اللاجئين الأوكرانيين البيض، والجمهور يلاحظ بوضوح تزايد تأييد البيض لليمين المتطرف في أوروبا الذي يعبر عن اتجاهات عنصرية.

وهكذا يمكن أن يؤدي العدوان الروسي على أوكرانيا إلى انفجار الأوضاع في أوروبا وأميركا، إذ يمكن أن يحل اللاجئون الأوكرانيون -الذين وصفهم نائب فرنسي بأنهم من نوعية عالية ومثقفين ويمكن الاستفادة منهم، بالإضافة إلى أن عيونهم زرقاء وشعرهم أشقر ولونهم أبيض- محل الكثير من المواطنين الملونين الذين يعملون في الكثير من الوظائف، وبالتالي سوف تتزايد البطالة، خاصة مع تزايد الأزمة الاقتصادية.

عقدة تفوق الأبيض

إن تعليقات وسائل الإعلام الغربية توضح أن عقدة تفوق الأبيض تسيطر على عقلية الإعلاميين الغربيين، وهذا يوضح ارتباط الإعلام بالرأسمالية، حيث يسيطر البيض على الشركات عابرة القارات التي تقوم بنهب ثروات الشعوب، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى استجابة لا يتوقعها الغرب خلال الأعوام التالية، فالشعوب سوف تدرك الكثير من الحقائق التي تزيد وعيها بخطورة التبعية لأميركا وأوروبا، وأن السود والملونين يجب أن يتحالفوا لمواجهة عقدة تفوق الأبيض التي تتحكم في نظرة النظم الغربية لشعوب أفريقيا وآسيا.

إن صواريخ بوتين التي أطلقها على أوكرانيا سوف تصيب النظام العالمي كله، وستفجر الأوضاع في العالم، وستساهم تغطية وسائل الإعلام الغربية في دفع الشعوب إلى الانفجار، فهناك الكثير من الأزمات والصراعات والحروب في أفريقيا وآسيا، لكن وسائل الإعلام الغربية لا تهتم بها ولا تتعاطف مع ضحاياها ولا تتعامل معهم بعدالة.

العدالة يمكن أن تحقق السلام

إن هذا العالم لا يمكن أن ينعم بالاستقرار بعد حرب روسيا على أوكرانيا إلا إذا امتلكت الدول الإرادة لبناء نظام عالمي جديد يقوم على العدالة واحترام حقوق الإنسان وحقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية، وفي استغلال ثرواته.

كما أن الغرب لا بد أن يتخلى عن عقده الاستعمارية العنصرية ليحفظ استقراره، وأن يبني علاقاته مع الشعوب على أسس غير عنصرية.

ووسائل الإعلام الغربية أساءت إلى قضية شعب أوكرانيا بهذه التغطية على الرغم من أن هناك الكثير من قصص البطولة والصمود والمقاومة التي يمكن أن تغطيها وسائل الإعلام، وبذلك تكسب تعاطف شعوب العالم مع الشعب الأوكراني.

لذلك، يحتاج الإعلاميون إلى ثقافة أخلاقية إنسانية تتناسب مع أهمية وظيفتهم في الوفاء بحق الجمهور في المعرفة، ودورهم التاريخي في بناء عالم جديد يقوم على الحرية والعدل والأخلاق، ورفض العنصرية والظلم والاستبداد والعدوان.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply