الصدمة التي أحدثتها الحرب الروسية على أوكرانيا أدت بأسعار النفط في السوق الدولية لمستويات غير مسبوقة، حيث تجاوز سعر برميل النفط في بعض الصفقات حاجز 132 دولارا، وهو ما رفع من سقف التوقعات بأن تشهد الأسعار المزيد من الارتفاع في ظل السيناريوهات غير الواضحة بشأن مستقبل الحرب الروسية على أوكرانيا، ومدى اتساعها جغرافيا، أو التوصل لإنهائها سلما أو حربا.

ولم يكن مستقبل الحرب فقط هو المتغير الفاعل في توجيه مسار أسعار النفط في السوق الدولية، ولكن العقوبات التي فُرضت على روسيا، من قبل أميركا وأوروبا، من شأنها أن تجعلنا أمام ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار النفط، فأميركا تبنت قرارا بشأن منع استيراد النفط الروسي، وكذلك أوروبا أعلنت أن مقاطعتها للنفط الروسي ستكون تدريجية، بسبب اعتمادها بشكل كبير على الغاز والنفط الروسيين.

ومنذ اللحظات الأولى للأزمة الروسية الأوكرانية، اتخذت كل من أميركا وأوروبا قرارا بعدم إخضاع قطاع النفط الروسي للعقوبات، وهو ما رحبت به روسيا، حيث تحقق صادرات نفطية قرابة 120 مليار دولار سنويا، بالإضافة إلى صادرات من الغاز الطبيعي بنحو 55 مليار دولار، وتمثل الإيرادات النفطية الروسية نحو 40% من ميزانياتها العامة.

دور المضاربات

تعد سوق النفط من الساحات البارزة على السوق الدولية للمضاربات، وبخاصة في ظل الأزمات، ونلاحظ أن هذه المضاربات مع بداية الأزمة أخذت في العمل على تحقيق أكبر مكاسب ممكنة من تأثر السوق بتلك الحرب، فشهدنا أسعارا تجاوزت سقف 132 دولارا للبرميل، كما اقترب سعر الألف متر من الغاز الطبيعي من حاجز 4 آلاف دولار، وأجج من هذه الأسعار الشتاء القارس بأوروبا.

ولكن الأيام الماضية كشفت عن تحركات أميركية، من شأنها أن تؤثر على مستوى الأسعار، وقد تلحق خسائر كبيرة بروسيا، على المستويين الإستراتيجي والمالي، حيث أدت تصريحات سفير دولة الإمارات في أميركا يوسف العتيبة، الأربعاء 9 مارس/آذار 2022، والخاصة برغبة بلاده في زيادة كميات إنتاج النفط وتشجيع “أوبك” على زيادة الإنتاج، إلى تراجع أسعار النفط لقرابة 110 دولارات للبرميل.

غير أن أسعار النفط استردت مستوياتها المرتفعة عند قرابة 122 دولارا للبرميل مرة أخرى الخميس 10 مارس/آذار 2022، بعد تأكيد وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي التزام بلاده بقرارات “أوبك بلس”. ومن جهة أخرى بدأت أميركا في طرق باب فنزويلا للعمل على زيادة حصتها من النفط بشرط توريد النفط لأميركا، مقابل أن ترفع عنها العقوبات.

هذه الخطوات، دون الدخول في تفاصيلها، أدت إلى ملاحظة بارزة في سوق النفط والغاز، حيث لوحظ يوم الجمعة 10 مارس/آذار 2022 أن سعر الغاز الطبيعي تراجع بنسبة كبيرة، حيث وصل لأقل من 1400 دولار لكل ألف متر مكعب، كما تراجع سعر خام غرب تكساس الوسيط اليوم الاثنين بنسبة 5.1% إلى 103.80 دولارات للبرميل، بينما خسر خام برنت بحر الشمال المرجعي في أوروبا 4.0% ليبلغ سعر البرميل 108.13 دولارات.

الرهان الروسي

منذ اللحظة الأولى، والسلوك الروسي لإدارة الأزمة على الصعيد الاقتصادي يراهن على إمكانياته النفطية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وأنه يستطيع أن يلحق أضرارا بسوق النفط العالمية تؤثر على المقدرات الاقتصادية، مما يجعل العديد من الدول ضد أميركا وأوروبا.

فروسيا لديها إنتاج يومي من النفط بنحو 10.5 ملايين برميل، تصدر منها نحو 7 ملايين برميل، كما أن لديها خطوط إمداد للغاز الطبيعي لدول أوروبا، على رأسها ألمانيا التي عارض مسؤولوها فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، وكانت العبارة الأشهر والمعبرة عن احتياج برلين للغاز الروسي هي التي صدرت من أحد المسؤولين هناك “إذا أظلمت بيوتنا فلن تتوقف الدبابات”.

ومع الوقت، تعاني موسكو بعد نحو أسبوعين من الحرب على أوكرانيا، حيث امتنعت بلدان عدة عن استيراد النفط الروسي، مخافة الوقوع تحت طائلة العقوبات الأميركية والأوروبية، ولذلك وجدنا حاملات النفط الروسية تبحث عن مشترين ولا تجدهم في إطار الصفقات العاجلة، كما بدأت موسكو في تبني إستراتيجية النفط الرخيص، حيث تقل بعض صفقات روسيا بنحو 20 دولارا عن متوسط السعر العالمي.

ووقع العقوبات الاقتصادية على روسيا، وإن كان لم يشمل كامل قطاع الطاقة الروسي، إلا أنه أحدث ربكة كبيرة، فالعملة الروسية (الروبل) تتراجع بنسبة تقترب من 100%، مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب على أوكرانيا، فالدولار حاليا يعادل 133 روبلا، وكان سعره قبل الحرب 72 روبلا فقط، كما أن روسيا أوقفت سوقها المالية، وتعرضت العديد من أسهم شركاتها للتراجع بالأسواق الدولية.

وتلقت موسكو ضربتين كبيرتين كذلك على الصعيد الدولي، حيث أعلن البنك الآسيوي للبنية التحتية وقف عملياته في روسيا على الرغم من أن الأخيرة تمتلك فيه حصة 6% من رأس المال، كذلك أعلن صندوق النقد الدولي صعوبة استفادة روسيا من حصة حقوق السحب الخاصة بها، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

الرهان الأميركي

إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، على ما يبدو هدف لأميركا لاستنزاف روسيا اقتصاديا بأكبر قدر ممكن، حتى يمكن ترويضها اقتصاديًا وسياسيًا، ولذلك تتجه واشنطن إلى تفعيل أكثر من جهة لتعويض خفض الإمدادات الروسية، من خلال دفع وكالة الطاقة الدولية للإفراج عن كميات من النفط من أجل العمل على تهدئة الأسعار، وكذلك الاتجاه للسعودية والإمارات للتأثير في قرار “أوبك” لزيادة الإنتاج، وأيضًا مغازلة فنزويلا التي تعاني من عقوبات اقتصادية من قبل أميركا أثرت بشكل كبير على مقدراتها النفطية.

وتعد فنزويلا أقرب الأوراق التي تستطيع أميركا تفعيلها بشكل كبير للإحلال الجزئي للنفط الروسي بالسوق الأميركي والدولي، ولكن لن يكون ذلك في الأجل القصير بسبب تهالك البنية الأساسية لقطاع النفط في فنزويلا وتواضع حصة الإنتاج التي تصل لنحو 700 ألف برميل يوميا، ويمكن رفعها إلى مليوني برميل إذا ما ضُخت الاستثمارات اللازمة لتطوير حقول الإنتاج وتغير السياسة الفنزويلية التي اتجهت لتأميم قطاع النفط مؤخرا.

وتعاني أميركا من ارتفاع معدلات للتضخم غير مسبوقة وصلت لقرابة 8%، ويرجع السبب في ذلك بنسب كبيرة إلى ارتفاع أسعار النفط بالسوق الدولية منذ منتصف عام 2021، ولم تكلل جهود الرئيس جو بايدن بالنجاح في حلحلة “أوبك بلس” لزيادة الإنتاج حينذاك.

ولكن لا يعني ذلك أن أميركا فقدت أوراق الضغط مع السعودية والإمارات لضخ المزيد من الإنتاج، فقد تنجح في ذلك خلال الفترة القادمة، وذلك نظير تحريك ملفات راكدة في العلاقات السياسية وحقوق الإنسان بين الطرفين.

استشراف مستقبل أسعار النفط

يمكن توقع مسار أسعار النفط في سيناريوهين، الأول: تراجع أسعار برميل النفط لأقل من 100 دولار، بفرض انتهاء موسم الشتاء سريعًا، مما يعطي فرصة لتخفيف الطلب على النفط والغاز، وبخاصة في أوروبا، وكذلك استمرار نطاق الحرب والعقوبات الاقتصادية في الإطار الحالي.

أما السيناريو الثاني فهو تشاؤمي يعتمد على احتمالات التصعيد للصراع، مما يضطر روسيا لاتخاذ قرار بمنع تدفق النفط والغاز لأوروبا، أو منع أحدهما، وهو ما من شأنه أن يدفع بأسعار النفط إلى المستويات التي يتوقعها البعض عند 200 دولار للبرميل، أو يزيد.

كما يمكن أن تتوسع الحرب الروسية على أوكرانيا، لتمتد نوعيا وجغرافيا لتشمل أطرافا أخرى، وهو احتمال وارد في ظل التضييق الشديد على روسيا من خلال العقوبات الاقتصادية، وهو ما يمكن أن يدفع الأخيرة لتصرف الأسد الجريح، فالرئيس فلاديمير بوتين قد لا يقبل الخروج من هذه الحرب منهزمًا سياسيًا أو اقتصاديًا، أو منهزمًا بشكل كامل.

الاستغناء عن النفط الروسي

من الصعب أن يتم الاستغناء عن النفط الروسي في الأجل القصير، أو الاستغناء عنه بشكل كامل، فهناك دول أوروبية وغير أوروبية أعلنت عن صعوبة استغنائها عن النفط الروسي، والذي يمثل 7% من إجمالي استهلاك الاقتصاد العالمي.

وبالتالي، فالبديل هو أن تعمل أميركا على سرعة إنهاء مفاوضاتها مع إيران، والسماح لها بعودة حصتها الإنتاجية التي كانت موجود قبل عقوبات 2018، والتي تصدر لنحو مليوني برميل كطاقة تصديرية يومية، والعمل على زيادتها في الأجل المتوسط، مع تحفيز السعودية والإمارات على زيادة حصتيهما الإنتاجية، وكذلك فنزويلا.

ولكن هذه البدائل -التي تمثل فرصا أمام أميركا وأوروبا- لن تجني ثمارها قبل انتهاء عام 2022، وهو ما يعطي فرصة لروسيا لتقييم أدائها، وبما قد يدفعها لإعادة النظر في أجندتها السياسية والاقتصادية.

ولكن في حالة إعادة روسيا للنظر في أجندتها السياسية والاقتصادية، ستكون النتيجة دفع ثمن غال يبقيها تحت مظلة الضغوط الأميركية.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply